الأبنودي: موال جنوبي طويل.. من كتاب (أهم أسباب اللّيل)/ عبده جبير.


  صوت من هناك:
  قبل أن أعرفه، أو أو أراه، أو أقرأ له، قالت عنه الحاجة سنية عبد المجيد جودة (والدتي):
  ـ “عبرحمان دا يا ولدي موال، موال كبير قوي”..
 
  صوت من الصبا: هل كان هذا حلم يقظة؟ أم كان حقيقة روت لي ـ على أية حال ـ تفاصيلها الحاجة سنية عبد المجيد جودة، الوالدة، التي كانت زوجة لوالدي، بالطبع، الشيخ محمد عبده أب جبير الأزهري حامل العالمية، حين روت لي موال مغادرة عبد الرحمن الأبنودي (الذي لم يكن حتى ذلك الوقت، قد تلبس بعد بلقبه الأبنودي بل كان عبد الرحمن الشيخ محمود) هذه المغادرة التي جرت ذات ليلة على هيئة موال كبير سري خبره في البلد كلها، والبلد هي قنا بلد سيدي عبد الرحيم القناوي الذي كان والدي يعمل بها معلما في المعهد الديني الأزهري والشيخ محمود يعمل بها مأذونا، له في مجال الزواج والطلاق والاصلاح بين الرجال وزوجاتهم ما أمكن شنة ورنة، فأن يغادر ابنه الذي كان يعمل في وظيفة صغيرة ككاتب في المحكمة الشرعية خلصها له الشيخ محمود بالعافية من ضرس الحكومة (باه. باه. باه) لأن الولد لم يكن قد أنهى تعليمه كما يجب، وهاهو، وقد ضربته صنعة الشعر في مقتل فلم يعد يسمع سوى صوت الجنونة (ولك أن تتصور حين تكون جنونة عبرحمن بجوار جنونة أمل دنقل الذي كان صاحبه في المدرسة، فلابد أنه الشيطان، ـ شيطان الشعرـ بعينه) ولكن المهم، قالت أمي: تسلل الشقي، في ليل راكبا القطار دون إرادة الوالد الشيخ محمود، صاحب أبوك، وفي يده صرة هدومه، وفي جيب سرواله بضع جنيهات، وبضع فكة، فانفجرت البلد “دي كانت ياولدي فضيحة موال عبرحم”.
  قالت:
  ـ أنت كنت معي، سبت عبصبور مع نظيرة (الدادة) وأخدتك معاي، رحنا نجامل أمه مرت الشيخ صاحب أبوك، كانت ياعيني بتندب، عينيها “بتكح دم”.
 
سنة السيل:
  أي عام كانت مغادرة عبرحمن الشيخ محمود؟، لا أعرف لم تحوش الذاكرة أنها كانت سنة السيل، حين هجم النيل على قنا فحطم الشواطىء، وفاضت الترعة الكبيرة، وغرقت الشوارع، ودخلت المياه البيوت، فإذا بي وأنا نصف نائم محمولا على كتف والدي الشيخ، مدلدلا، وهو يطلع بي السلالم للطابق الأعلى هربا من المياه الزاحفة تعلو حتى وصلت الطابق الثاني، وخلفه أمي حاملة أختي عفاف ونظيرة تحمل أخي عبصبور، أنا أتابع المياه وهي ترتفع خلفنا وتغرق السلالم وأبي يصرخ حتى فتح الجيران اللي فوق الباب ودخلنا، مبللين كلنا وفي عيون الجميع رعب لم أره إلا بعد سنين في عيون المرعوبين يوم الزلزال الكبير، أذكر هذه الكارثة ـ الآن ـ كحلم يقظة، لكنها ساعتها لم تكن كذلك، كانت كابوسا مخيفا تسبب لي في رهاب من الماء ظل حتى هذه اللحظة يلازمني، حيث أغرق في كوز ماء، أغرق حتى في البانيو لبضع لحظات تشن فيها الذاكرة هجوما داخليا يكتم نفسي فلا أستطيع التنفس، وزاد الطين بلة أنه عندما أراد عمي تعليمي العوم، غرقت بالفعل فقطع الحبل بيني وبين الماء الذي أضحى رعبي الكبير الذي لم ينفع في علاجه أي شيء. نعم أعتقد أن مغادرة عبرحمن كانت في سنة الماء، سنة السيل، أو ربما بعدها بقليل.
  تقليد المثل:
 
  لا تزال الذاكرة تحمل، فيما روته أمي لي بعد ذلك بكثير وفي عينيها عتب جارح، أنها ذهبت مرة أخرى إلى الحاجة فاطنة، ومعها زيارة من الحلوى، لتبارك لها “العثور على عبرحمن في الراديو”، إذ أن والده الشيخ الذي كان الحزن قد غمره على هرب ابنه التقى بوالدي في واجب وأبلغه بأن عبرحمن ظهر في الراديو وهو يقول “الزجل” الحمد لله أهه بان كويس “أبي قال لأمي أن تذهب وتبارك للحاجة فاطنة”.
 
 
  لمَ إذن كان عتب أمي عليّّ؟ الحقيقة أنني كنت فعلت مثلما فعل عبرحمن، لملمت هدومي في ليل وأخذت (سرقت) فلوس إيجار البيت وركبت القطار راحلا إلى القاهرة هربا مثلما فعل عبرحمن الأبنودي الذي ظهر بعدها في الراديو. وهاأنذا أعترف، أنني، ومن سيرة موال عبرحمن احتدمت مسألة المغادرة في نفسي “عبرحمن الأبنودي هرب ونجح فلم لا أهرب أنا أيضا؟”.
  أعترف بأنني قلدته، مقتديا به، لأظهر في الراديو، ربما، لكنني، أعترف أن الأبنودي بسبقه في المغادرة على غير إرادة والده الشيخ، هو الذي ألهمني، و أنني دبرت خطة الهرب على نفس النحو، وطبعا كان والدي الشيخ يرى أن هذه الخطة، ليست مجرد تقليد لخطة عبرحمن، بل هي خطة موجهة برمتها إليه، ولكرامته، شخصيا، والدعوى أنني أريد أن أذهب لعالم الأدب الفاسد وأترك عالم العلم في الأزهر”.
  ولم يكن هذا أبدا على هذا النحو. فأنت إن عرفت ما يعنيه مجتمع الصعيد من زاوية التخلف لعرفت مرارة العيش في القيود القاسية التي تدفع بك إلى الجنون. كانت المغادرة إذن من أجل الرغبة في الانعتاق من هذا الجو المحافظ الخانق (وكانت القاهرة ساعتها هي المرفأ الرحب، مدينة الفنون والكتب، مدينة الأغاني والموسيقى التي تحف بها سيرة الحياة في أجمل معانيها) فليكن الانعتاق إذن من هذا الجو المتخلف الذي لا يفهم أصلا معنى الموهبة أو معنى الثقافة، أو معنى وضرورة أن تنفتح على الحياة، أن ترى وأن تسمع وتتعلم، أن تربي وجدانك على النحو الذي يجعلك أكثر إنسانية وأكثر تعاطفا مع مشاكل الناس وأكثر فهما لها ، أن تخرج عن الإطار الموضوع لك (تصور أن ما كان يحمله الشيخ محمود لابنه عبرحمن من حلم أن يطلع مثله مأذون البلد، وأن ما كان يحمله الشيخ محمد عبده لابنه ـ أنا ـ شيخ في المعهد الديني يلهج بالألفية؟) كمجرد إنسان أناني لا يهمه سوى “تكوين عائلة وتربية أولاد والمشي جنب الحيط”، في الوقت الذي جلبك اهلل ألن تكون من نوع آخر من البشر، من أولئك الذين يلقون بأنفسهم في أتون الحقيقة ليرفعوا راية العدل والحرية، الذين ضحوا بأجمل أيام عمرهم في السجون ـ إذا وجبت التضحية ـ والمعتقلات ـ إذا كانت الضرورة ـ وقضوا الليالي الطويلة بين الكتب، والآخرون ينظرون لك نظرة المغترب الغريب وربما المجنون أو في أفضل الظروف الراهب، في الوقت الذي تدفعك موهبتك للاشتباك مع الحياة، والتفتح على إيقاعات النغم الطويل لتراجيديا الكون، مندفعا لكي ترى وتسمع وتحس، ترتاد المسارح ودور الخيالة ومعارض الفنون لترى وتحس وتسمع وتستوعب ثقافة العصر. أنت إن كنت مدفوعا بموهبتك لتصل لهذه الغايات أو بعضها فلا مكان لك هناك، ومكانك هنا: في القاهرة التي كانت بالفعل كما قال خالي عبد الرؤوف وهو يضع بين يدي رواية محمد حسين هيكل “قرية ظالمة” إنها مدينة الظرافة واللطافة.
 
  أصداء اللقاء الأول:
   من هو الذي يا ترى أخذني لبيت عبرحمن وعطيات الأبنودي لأول مرة في حارة الدرمللي بباب اللوق؟ هل هو عبد الرحيم منصور؟ أم يحى الطاهر عبد لله أم نجيب شهاب الدين؟ الأغلب أنه كان نجيب شهاب الدين، لا يهم، لكن الذي يهم أنني وطوال الوقت الذي جلست فيه في بيت عبد الرحمن لأول مرة ـ بعد ذلك الزمن الطويل الذي كنت قد قطعته ما بين الطفولة والصبا فالشباب (وأظن أن هذا كان في أعقاب خروجه من السجن عام 1968(م) أنني أردت أن أخبره عن هذه العلاقة القديمة، بين أسرتينا، وأنني وأنني، لكنك لا يمكن أن تكون في حضرة عبد الرحمن وعطيات وتستطيع أن “تبحبح” عن نفسك، أو تقول شيئا خارج ما يتحدثان به، فهما لا يمكن أن ينسحبا لدور المستمع بل عليك أنت أن تكون في دور المستمع طوال الوقت، وإلا فإنك ستخسرهما على الفور، لكن ما لفت نظري في هذه الزيارة الأولى تلك القيمة التي يوليانها لتقديم الطعام لمن يحضر، لأنه بالفعل كان أغلب من يحضر لهذا البيت هو في الغالب أحد العزاب المشردين من الأدباء الشبان الذين هم في الغالب بلا مأوى، والأهم أنهم بلا حياة أسرية مستقرة يجد فيها المرء طعاما ساخنا، فطعام المشردين الأدباء الشباب كان غالبا من صنف سندوتشات الفول والطعمية أو أطباق الكشري، أو في أحسن الأحوال سندوتشات الكبدة الملهلبة بالشطة من عربيات الباعة الجائلين في الطريق، وانتهينا من الأكل وهممنا بالمغادرة، وعند الباب قال الأبنودي:
  ـ معاك فلوس؟ فوجئت بالسؤال الذي وجهه لي عبد الرحمن وأنا نازل من على السلم؟ قلت: آه.
  وكان يهم بوضع فلوس في يدي، لكنني، على أي حال أحسست لأول مرة بهذه الروح التضامنية التي كانت سائدة بين رفاق القلم صغيرهم وكبيرهم في هذا الزمن الذي رغم كل مآسيه لا بد أن نقول عنه الآن أنه كان: الزمن الجميل. لقد ترددت على هذه الشقة الضيقة الخانقة والتي كانت رغم ذلك مليئة بروح المحبة والتضامن (ما يجعلني أكاد أبكي) العديد من المرات بعد ذلك، أذكر أن أسعد هذه المرات حين أخذني يحيى الطاهر وهو يكاد يطير من الفرح لأنني كنت قد نشرت قصتي الأولى الأمواج   ربما لأنها كانت لقطة من أجواء الصعيد، وأصر على أن يقرأها لعبد الرحمن وعطيات التي مالت عليّ وقبلتني، ومال عبد الرحمن عليّ واحتضنني (ولا تزال تلك القبلة على جبيني، ودفء ذلك الحضن يسري في روحي على الرغم من مرور السنين) لم أكن بعد قد اعتدت علي هذه الأجواء، فسألت مرافقي عن سر سؤال عبد الرحمن عما إذا كان معي فلوس أم لا، قال نجيب شهاب الدين: عبد الرحمن من النوع الذي يقتسم معك ما في جيبه إذا كنت مفلسا.
  عشة الزمالك:
  بعدها بسنوات، كان انتقال عبد الرحمن الأبنودي للسكن في “شقة” الزمالك مثارا للقيل والقال، وسرت في أوساط “المثقفين” أقاويل ما أسمته عطيات الأبنودي في كتابها الممتع “أيام السفر”: “النقلة الطبقية لشاعر الشعب.. التي نسبوها.. لزوجته
البرجوازية التي سوف تحوله إلى كائن يسعى إلى جمع المال والاقتراب من دوائر الحكم”. وتعال ياسيدي لترى شقة الزمالك هذه، فإذا بها مساحة من سطح إحدى العمارات يملكها تاجر كوالين في الرويعي، حولها إلى شقة، دون أن تكون لها مقومات السكن “الطبيعي” فلم تكن المياه تصلها، وعلى الرغم من وقوعها في الطابق السابع (تقطعت أنفاسي لأصل وأنا كنت لا أزال شابا) إلا أنه لم يكن بها وسيلة وصول إلا الدرجات التي لا تكاد تنتهي وأنت تجاهد من أجل الوصول، أي عذاب هذا؟ لذلك فقد أطلقت عليها “عشة الزمالك”.
سياق الشاعر الشعبي: لكننا على أية حال كنا بدأنا مغادرة عصر عبد الناصر وجاء عصر السادات المجيد، وحتى عام 1974م لم تكن هناك مشكلة كبيرة، ولكن بعدها بدأت المشكلة، خاصة أمام عدد من المواهب الكبيرة التي كان تواجدهم في الساحة العامة قد فرض عليهم ظروفا خاصة، فهم في قرارة أنفسهم لم يكونوا راضين عما يجري من تغيرات على يد السادات، خاصة وأن الانفتاح قد تحول، بتعبير أحمد بهاء الدين، إلى “سداح مداح”، لكن بالله عليك ماذا يفعل رسام كاريكاتير وشاعر شعبي وممثل مثل صالح جاهين، هل يستطيع مغادرة مكانه في جريدة الأهرام “الرسمية”؟ هل يستطيع الانقطاع عن جمهوره العريض؟ وماذا عن يوسف إدريس، الذي هو كاتب شعبي من نوع آخر؟ هل يستطيع أن يجلس علي مقهى ريش مكتفيا بإصدار مطبوعة محدودة التوزيع مثل “جاليري” 86؟ وماذا يفعل، إذن، كاتب الأغاني؟ كاتب الأغاني بالذات، هذا الذي يرى في الأغنية “أخطر وسائل” التعبير، لأنها الأوسع انتشارا بين كل الناس، ثم كيف يحمي الفنان شاعر العامية نفسه من هذا الجو المشحون بالعداء لكل ما هو جاد، لكل ما هو حقيقي؟ كانت فترة صعبة، خاصة وأن حالة من الاستقطاب كانت قد جرت بين المثقفين، ما بين حزب الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وحزب الأبنودي وجاهين ويوسف إدريس، الأمر الذي لم يحتمله جاهين فأدمن الاكتئاب، ولم يحتمله الأبنودي الذي كان يمشي طوال الوقت على الحبال، فواصل مسيرته متسلحا بمقولة أن الفنان الشعبي هو كائن عابر للأحزاب، عابر للجماعات وعابر للعقائد، عابر للطبقات والفرق، وعابر للمقولات، لأن همه الأول هو لقاؤه كل صباح ومساء بكل الناس.
  ليلة الاعتراف:
  بعدها بسنوات طويلة، كنت قد توليت مسئولية إدارة تحرير مجلة “القاهرة” وما أن عرفت الخبر حتى رفعت سماعة التليفون:
  ـ إزيك ياعم أبنودي؟
  ـ مين؟ عم عبده، أنا موش ولابد، لكن لو شفتك حابقي كويس. خلال دقائق كنت معه، سألته عن حقيقة أنه كتب مؤخرا قصيدة جديدة، قلت له أنني سأكون سعيدا لو أعطانيها لأنشرها في القاهرة، قام وجاء بالقصيدة ووضعها بين يدي، نظرت للعنوان “الكتابة” فإذا به يسأل:
  ـ أنتا حتقراها؟، سيبك دلوقت، تشرب إيه؟ وقام بنفسه وأحضر المشروب، وبدا أنه يتوق للمساهرة بعيدا عن أي شيء يتعلق بالعمل، في هذه الجلسة التي انتهت بزيارة ثلة من الأصدقاء (كان بينهم الطيب صالح) تمكنت، لأول مرة، من أن أحكي له أصداء حكاية مغادرته قنا، وكيف أنني حين هربت من البلد، كان هذا بوحي منه، وأنه لولا ما استمددته من شجاعة فعلته لما كنت ربما قد رحلت لعالم القاهرة الرحيب، ولربما كنت لا أزال جالسا هناك ألعق ألفية ابن مالك مع الطلبة الغلابة في غرفة مغلقة لا تدخلها أشعة الشمس، وأن عبد الرحمن الأبنودي نفسه كان يمكن أن يكون مأذون قرية أبنود لشئون الزواج والخناقات الزوجية التي تنتهي عادة بالطلاق.
 
“والليل جدار إذا يدن الديك من عليه يطلع نهار”.
 
 

فكرة واحدة بشأن "الأبنودي: موال جنوبي طويل.. من كتاب (أهم أسباب اللّيل)/ عبده جبير."

أضف تعليق